لماذا تعتبر علاقة مصر مع إيران مفيدة؟

د.يوسف حسن

مقدمة
تواجه مصر منذ عام 2019 العديد من التحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي، تعود جذور الكثير منها إلى أزمات مثل وباء كورونا ثم اندلاع الحرب بين أوكرانيا وروسيا. وشهدت مصر خلال هذه السنوات ارتفاعاً غير مسبوق في الديون الخارجية على المستوى المحلي، بلغت 165 مليار دولار، سيتعين عليها، بحسب بعض التقديرات، سداد 29 مليار دولار في 2024 (العربية نت، 3 أكتوبر 2023).
وعلى الرغم من جهود الحكومة في اعتماد العديد من الإجراءات التقشفية لتمکین البلاد على التزاماتها المالية، فإن العديد من القوى الإقليمية – الصديقة لمصر على ما يبدو- وكذلك القوى العالمية المؤثرة في المؤسسات النقدية والمالية الدولية حاولت تشويه وضع البلاد و فرض بعض الشروط الصعبة وغير القابلة للتنفيذ للاستفادة القصوى من الوضع القائم، وإذا جاز التعبير، کان لدیهم أمل خاص فی الانهيار المالي والاقتصادي الذي تشهده مصر (الشروق، 21 يناير 2024). كما أن تقارير المؤسسات الاستطلاعیة وخاصة التقرير الأخير لوكالة موديز یسير في نفس الاتجاه. وفي هذا التقرير تم تغيير التصنيف المستقبلي للديون السيادية لمصر من “مستقر” إلى “سلبي” (بلومبرج، 19 يناير 2024).
لقد دفعت المشاكل العديدة التي تواجهها مصر القوى الإقليمية والعالمية إلى محاولة تعزيز مصالحها دون الالتفات إلى مصالح مصر الأساسية وأمنها القومي، بل وحتى الإضرار بها في بعض الحالات. محاولة “إزالة” قضية فلسطين وغزة من حساب مصر، وهجرة أبناء قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء، والحرب الأهلية في السودان وحمایة بعض الدول العربية عن ميليشيات الدعم السريع، خلق مشاكل كثيرة علی طریق تجارة مصر في ليبيا وتأجيج نار الخلافات بين خليفة حفتر والبرلمان القانوني والمنتخب في هذا البلد (مقره طبرق)، مواصلة مشروع بناء سد النهضة من قبل إثيوبيا دون مراعاة المصالح الحيوية للشعب المصري في نهر النيل وفضلاً عن محاولة أديس أبابا التواجد في البحر الأحمر و باب المندب (عبر جمهورية غیر شرعیة أرض الصومال) من أجل خلق تهديد في قناة السويس، والكل یکون في هذا الاتجاه و العديد من الجهات اعتبرت الوضع الحالي بمثابة تراجع لموقف مصر.
ضرورة مراجعة سياسة مصر الخارجية لحل الأزمات المقبلة
إن التغلب على التحديات الكبرى في البيئة المحيطة بمصر وكذلك التغلب على الأزمة الاقتصادية لهذا البلد يتطلب من القاهرة إجراء مراجعة لسياستها الخارجية، واتباع سياسة أكثر نشاطاً في المنطقة وحضوراً نشطاً ورائداً في كافة القضايا الإقليمية یناسب مع الدور التاريخي لمصر في الوطن العربي. وبالإضافة إلى تعزيز الأمن القومي لمصر، فإن زيادة دور القاهرة الإقليمي سيزيد أيضاً من قيمتها الاستراتيجية ويشجع الدول الغربية والعربية على دعمها بشكل أكبر في هذا الوقت الحرج.
مما لا شك فيه أن إعادة النظر في سياسة مصر الخارجية لن يعني تغييراً في تحالف مصر التاريخي مع الولايات المتحدة وكذلك تحالفها مع الدول في مجلس التعاون الخليجی علی الإطلاق؛ بل سيكون في الواقع وسيلة لدخول مصر في قلب الهیکل الأمني للمنطقة وتوفير الأرضية لها لمزيد من التآزر مع هذه الدول. وفي هذا الصدد، بذلت مصر العديد من الجهود لتحسين علاقاتها مع تركيا؛ وفي تموز/ يوليو 2023، أكمل البلدان عملية تطبيع العلاقات بينهما ورفعا العلاقات إلى مستوى السفراء (الجزيرة نت، 4 تموز/ يوليو 2023).
ومع ذلك، فإن تقدم العلاقات بين مصر ومنافسها المهم، أي إيران، لا يزال قائماً عند النقطة التي كانت عليها قبل 44 عاماً، ولم يتمكن البلدان حتى الآن رفع مستوى علاقاتهما إلى أکثر من المستوى الحالي. وهذا وفقاً لتطبيع العلاقات بين طهران والرياض والأجواء الوثيقة التي نشأت بين إيران ومعظم الدول العربية، قد أتاح فرصة جيدة لتحسين العلاقات بين البلدين. لذلك، في هذه اللحظة الحاسمة، من الضروري الإجابة على سؤال ما هي الإنجازات التي يمكن أن يحققها تحسين العلاقات مع إيران وتطبيع العلاقات معها للسياسة الخارجية المصرية؟ وللإجابة على هذا السؤال يمكن سرد بعض هذه الإنجازات على النحو التالي:
تعزيز الأمن القومي لمصر وأمن العالم العربي: إن استئناف العلاقات مع إيران يفتح الأرضية اللازمة لإجراء سلسلة من الحوارات النقدية والصريحة مع طهران في القضايا الإقليمية خاصة حول سوريا ولبنان والعراق واليمن. كما أنها تمنح مصر إمكانية تحقيق مصالحها الوطنية وحماية أمن العالم العربي باستخدام قناة اتصال أوسع. وهذا مهم بشكل خاص لأن القاهرة تلعب حالياً دوراً بناءً في هذه القضايا بکونها عضواً في “لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا” وأيضا من خلال تواجدها المستمر في لبنان. وبالنظر إلى دور إيران المهم في هذه البلدان، فإن تطبيع العلاقات مع طهران سيسمح للقاهرة بالحصول على المزيد من الأدوات للتأثير الإيجابي والبناء في لبنان وسوريا.
ملفات الأمن وإعادة الإعمار في العراق: بالإضافة إلى القضايا الأمنية، هناك قضايا تتعلق بحصة الشركات المصرية في مشروعات إعادة إعمار البلاد – خاصة في مجال البناء والهندسة المدنية – فضلاً عن وجود العمالة المصرية في السوق العراقية المتنامية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول أن مشروع ربط خطوط نقل الكهرباء بين العراق ومصر واستيراد النفط من هذا البلد وفق الأطر “الكهرباء مقابل النفط” و”الكهرباء مقابل إعادة الإعمار” ساهم كثيراً في المیزان التجاری للبلد، وتكاليف الطاقة، واستخدام قدرات محطات توليد الطاقة، وكذلك التقدم فی خطط البلاد لتصبح مركزاً إقليمياً للطاقة في جنوب البحر الأبيض المتوسط؛ خاصة إذا تم إنشاء خطوط النقل هذه، فيمكنها إيصال جزء من نفط العراق إلى الأسواق العالمية دون عبور مضيق هرمز وباب المندب. التعاون و التآزر مع إيران في العراق يمكن أن تؤدي إلى فوائد اقتصادية كبيرة للقاهرة بالإضافة إلى تحسين الاستقرار السياسي في مصر؛ خاصة وأن مصر تنفذ حالياً مشروعات بقيمة تزيد على أربعمائة مليون دولار في المجال الاقتصادي في العراق. وكما تبلغ استثمارات مصر في العراق مائتي مليون دولار واستثمارات العراق في مصر تصل إلى خمسمائة مليون دولار (شفق نيوز، 13 حزيران 2023). وفي المجال الأمني، فإن مشاركة إيران والعراق ومصر في مجالات مكافحة الإرهاب والجرائم المنظمة وتعزيز السلام والاستقرار الاجتماعي والسياسي والإصلاح الإداري في العراق ستؤدي إلى زيادة الاستقرار في العراق وسیحول مصر ثقلاً مهماً لموازنة دور إيران في هذا البلد.
دوائر جديدة في سياسة مصر الخارجية: خلال رئاسة السيسي، وفقاً لاستراتيجية الدبلوماسية التنمية واكتشاف فرص التبادل الاقتصادي والاستثمار، أولت مصر اهتماماً خاصاً للحرکة فی مجالات جديدة في سياستها الخارجية. ولذلك، شهدنا خلال العقد الماضي أن العلاقات بين مصر ودول آسيا الوسطى والقوقاز نمت بشكل ملحوظ. وفي هذا الصدد، زار السيسي، رئيس مصر، كازاخستان عام 2016، وأوزبكستان عام 2018، وأذربيجان وأرمينيا عام 2023. إن تطوير العلاقات الاقتصادية مع آسيا الوسطى والقوقاز، وزيادة حجم التجارة الثنائية، وأیضاً لعب الأدوار السياسية في هذه المنطقة يتطلب إمکانیة وصول السلع والخدمات المصرية إلی هذه المنطقة بسرعة ورخيصة وآمنة. ولذلك تعتبر إيران الخيار الأنسب -وربما الخيار الوحيد- لهذا الأمر؛ لأن هذا البلد لديه اتصالات بالسكك الحديدية والطرق مع هذه البلدان وسيوفر الوصول إلى هذه البلدان بشكل أسرع من روسيا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن النظر إلی إيران وبنيتها التحتية علی أنها وسيلة أكثر اماناً للوصول إلى السوق الأفغانية.
التحديات التي تواجه الوطن العربي والعالم الإسلامي: حل التحديات التي تواجه العالم الإسلامي والعالم العربي وخاصة القضية الفلسطينية ومخططات النظام الصهيوني للتطهير العرقي لأهل غزة وطردهم من منازلهم وقراهم ومختلف القضايا في العالم الإسلامي تتطلب من مصر وإيران باعتبارهما دولتين مؤثرتين في المنطقة المزيد من التنسيق والتعاون مع بعضهما البعض، خاصة في الأوساط العالمية. إن مسائل مثل قضية كشمير والمسلمين في ميانمار وقضايا الساحل والصحرا، وأیضاً مكافحة الإرهاب والانفصالية والتطرف، هي من القضايا الهامة التي تحتاج إلى مزيد من التعاون والتنسيق مع إيران. خاصة أن وجود مصر كشريك حوار في منظمة شنغهاي للتعاون يعد من علامات رغبة القاهرة في رفع مستوى تفاعلاتها العالمية، وتعتبر إيران عضواً في هذه المنظمة. إضافة إلى ذلك، فإن القرب الثقافي بين مصر باعتبارها منشأ الأزهر وقطب الإسلام السني وإيران باعتبارها أحد الأقطاب المهمة للمذهب الشيعي، يمكن أن يمنع المنطقة من التوجه نحو التطرف والصراعات الطائفية. ويمكن أيضًا اعتبار العلاقات مع إيران أداة لإدارة بعض السلوكيات المحددة للجهات الفاعلة المعروفة بالمقاومة. ومن شأن هذه الأمور أن تساعد في تعزيز مكانة مصر كثقل موازن في المنطقة وضامن للاستقرار والأمن فيها.
سلوكيات الدول والمنظمات المتبرعة والمقرضة: تواجه الحكومة المصرية حالياً العديد من المشكلات في مجال توفير النقد الأجنبي لتلبية الاحتياجات الأساسية، وسداد القروض و فوائدها، فضلاً عن المشكلات الهيكلية المزمنة في اقتصادها. ومع ذلك، فإن جزءاً كبيراً من الهجمات الدعائية ضد البلاد يهدف في الواقع إلى إجبار مصر على تحرير سعر الصرف، ونتيجة لذلك، مضاعفة أرباح المقرضين وكذلك المشترين للشركات العامة. کما يجبر الحكومة المصرية على القيام بإصلاحات تهدد سيادتها على الاقتصاد وقد تؤدي إلى تدهور الاقتصاد ومعيشة الناس. الإضافة إلى ذلك وحتى حرب غزة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعلق أجزاء من المساعدات المرسلة لمصر في فترات مختلفة بذرائع مثل قضايا حقوق الإنسان، بل وكانت في بعض الأحیان ترسل هذه المساعدات إلى دول أخرى؛ بحيث علقت واشنطن في 2021 إرسال نحو 130 مليون دولار من مساعداتها للقاهرة. وفي مثل هذه الظروف، ومن أجل التعامل مع الضغوط الدولية غير المشروعة من الدول والمؤسسات الدولية ومن أجل تحسين شروط الوصول إلى القروض الجديدة والبيع العادل للممتلکات وجذب استثمارات جديدة، یوصی بتعددية الأطراف في السياسة الخارجية وصنع الأدوات في المجال الدولي. على الرغم من المشاكل العديدة التي تواجهها دول مثل الصين وروسيا وإيران، فإن تحسين العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية مع هذه الدول وكذلك زيادة الدور الإقليمي والعالمي لمصر يمكن أن يذكر حلفاء القاهرة بأن هذه الدولة لا تزال واحدة من دول مؤثرة على المستوى العالمي ولا يمكن معاملتها مثل الدول الأخرى. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك التغير في سلوك الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي تجاه مصر بعد حرب غزة. ویمکن رؤیة سلوك أكثر مرونة لهذين البلدين تجاه مسألة الديون والإصلاحات الاقتصادية.
آفاق إيجابية للتعاون المشترك: تتمتع كل من مصر وإيران بخلفية ثقافية وتاريخية غنية والعديد من القواسم المشتركة الثقافية. بالإضافة إلى ذلك، تتمتع مصر وإيران بالعديد من إمكانيات التعاون والتآزر في مجالات مثل الزراعة والسياحة والإصلاح الإداري والصناعة والتكنولوجيا والنفط والغاز والطاقة الذرية والطب، والتي يمكن أن تكون في شكل نقل التكنولوجيا بين البلدين أو الاستثمار المشترك أو تحسين الحجم التبادل التجاري الثنائي. وفي مجال السياحة، ورغم العقوبات الاقتصادية الواسعة، لاتزال إيران تعتبر من الدول التي ترسل السياح، وتشير التقديرات إلى أن إيران في عام 2020 أرسلت أكثر من مليوني سائح إلى تركيا (راديو فردا، 8 يناير 2024)؛ ويمكن تكرار هذه الإحصائية بالنسبة لمصر مع تغییرات طفیفة.
خاتمة
الوضع الراهن لمصر والمنطقة والعالم، والتحديات التي تواجه المنطقة خاصة بعد حرب غزة، وكذلك أجواء المصالحة الناجمة عن السياسات التصالحية لإيران والسعودية وتركيا وغيرها من دول المنطقة، لقد وفرت سیاقاً مناسباً لتحسين العلاقات بين طهران والقاهرة، ولکن لیس واضحاً إلى متى سيستمر هذا الفضاء. إن عودة العلاقات بين مصر وإيران للأسباب المذكورة في هذا المقال وغيرها من الأسباب ستفيد مصر والمنطقة والعالم الإسلامي، وكذلك بعض حلفاء القاهرة، ولذلك فمن المناسب استغلال هذه الفرصة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *