البرجوازية المصرية .. عسر الولادة وتخبط المسار

كتب – السيد هاني

منذ أيام .. صدر عن دار “دان” للنشر والتوزيع .. الكتاب الثالث للكاتب والمفكر المصرى الدكتور رشدى يوسف .. تحت عنوان “البرجوازية المصرية – عسر الولادة وتخبط المسار” .. وفيه يتناول الظروف التاريخية التى أدت إلى ظهور الطبقة البرجوازية ؛ سواء فى أوربا أو فى مصر .. والدور الذى لعبته هذه الطبقة فى صناعة الأحداث وخلق نظام رأسمالى أصبح منتشرا فى معظم بلاد العالم .. مشيرا إلى أن الظروف التى أدت إلى ظهور البرجوازية فى أوربا تختلف عن الظروف التى أدت إلى ظهورها فى مصر من حيث الدواعى التاريخية وظروف تطور المجتمع ..!
يقول مؤلف الكتاب الدكتور رشدى يوسف إن كتابه يركز على دراسة الشروط التاريخية التى استدعت ظهور الطبقة البرجوازية فى التاريخ , والتى صاغت وأوجدت النظام الرأسمالى الذى يحكم زماننا , لكن هذه الشروط كانت فى أوربا مختلفة عنها فى مصر من حيث الدواعى التاريخية وظروف تطور المجتمع . لذلك فإن الشروط التاريخية عندما اختلفت أنتجت وعيا مختلفا بالمهام التاريخية . فضلا عن الوزن النسبى للطبقة داخل التقسيم الإجتماعى , فبينما كانت البرجوازية الأوربية تجنى أرباحا صنعها تطور أدوات الإنتاج وساهم فى تعاظمها كشوف جغرافية أضافت عالما جديدا يحوى ثروات واعدة إنهالت على أوربا . كانت هذه البرجوازية فى نفس الوقت تبنى وعيها وتستوعب التطورات التاريخية مما جعلها تأخذ موقفا مناقضا للنظرة السكونية للواقع . تلك النظرة التى كان يتبناها رجال الدين وحلفائهم من نبلاء وملوك العصور الوسطى .
وأخذت الطبقة البرجوازية فى أوربا تنجب مفكريها الذين صرخوا فى البرية : إن العقل الإنسانى ليس قاصرا , وأن الطبيعة ليست طلسما , وأن القول بالسكون التاريخى هو خديعة لإستغلال البسطاء , وإن رجال الدين شركاء فى هذا الظلم المجتمعى لأنهم يضفون القداسة على هذا التقسيم الجائر الذى يستعبد بسطاء الناس ويعتقل عقولهم . ذلك ما وضع البرجوازية الأوربية فى تصادم مع التقسيم الإقطاعى للمجتمع الذى ساد العصور الوسطى , كذلك وضعهم فى تصادم مع الكنيسة التى كانت تسبغ بركاتها على الطبقات المسيطرة , بينما تطالب المسحوقين بالصبر والإمتثال حتى ينالوا الفردوس .
ولأن البرجوازية الأوربية أصبحت هى الأقوى إقتصاديا بفضل إدخال الآلة فى عملية الإنتاج , كذا أصبحت هى الأكثر وعيا بفضل إيمانها بأهمية البحث العلمى وتطوير أدوات الإنتاج . لذلك إستطاعت أن تفرض وجودها . وأن تنسف العالم القديم لتؤسس لعالم جديد يتحقق فيه الإخاء والمساواة , فحققت ثورتها الأولى فى فرنسا عام 1789 , كذا إستطاعت أن تطرح عقدا إجتماعيا أسقطت فيه القداسة عن الحكام وحولتهم الى موظفين عموميين , يختارهم الشعب ويحاسبهم البرلمان وتتابعهم الصحافة ويحاكمهم القضاء . ووضعت لكل ذلك ما أسمته الدستور وجعلته من ثوابت الأمة . وبذلك دشنت البرجوازية الأوربية الزمان الرأسمالى .
ولأن النظام الرأسمالى ينحاز بطبيعته للكبار , لذلك فإن الرأسمالية الكبيرة راحت تلتهم صغار المنتجين , لأنهم عجزوا عن تطوير أدوات إنتاجهم , أى عجزوا عن توظيف بعضا من فائض القيمة فى التطوير والتوسع .
وإذ تشبعت أسواق أوربا . راحت تلك البرجوازيات الكبيرة تمخر عباب البحار ببوارجها الحربية كى تفتح بقوة السلاح الأسواق الخارجية . وعند هذه النقطة كان قدر البرجوازية الأوربية التى تحولت إلى إمبريالية أن تلتقى بنظيرتها المصرية .
لكن البرجوازية المصرية آنئذ كانت لا تزال جنينا فى رحم الأم الإقطاعية ذات الإستبداد الموروث والذى كان قد تقمص عباءة الدين فأصبح هو هى , أو هو إيّاها . فلما ولدت البرجوازية المصرية وجدت نفسها فى إطار برجوازية دولة محمد على باشا , تلك الدولة التى اعتبرت نفسها وريثة شرعية للنظام الإقطاعى وليست مناقضة له . فلمّا نجحت الإمبريالية الأوربية فى كسر طموحات محمد على وتقييد سلطته, وجدت البرجوازية المصرية نفسها تجلس على حجر الإمبريالية , وبذا لم يتوفر للبرجوازية المصرية تربية حسنه ولا مناخ ديموقراطى ولا سوق وطنية تنمو فيه وتنمو به وتدافع عنه , فاختلطت لديها المعانى . فلم تستطع أن تطرح أيدولوجية تجعل الحاكم بشرا سويا وتخلع عنه عباءة القداسة الدينية . فظلت طوال تاريخها تؤمن بالحاكم الفرد والقائد التاريخى الذى لا يقيده عقد اجتماعى , وظلت كلما تعرضت لصدام مع البرجوازية الغربية تتعثر فى أسمالها الإقطاعية فإذا هى تبحث عن القائد الملهم أوالولى القطب الذى يعيد أمجاد الدولة الدينية التى تناوئ فسطاط الكفار . أى أنها دخلت العصر الرأسمالى مثقلة بحمولة من الزمن الإقطاعى جعلتها دائما محنية الظهر متعثرة الخطى تتخبط فى مسارها .
وفى الصحوة التى أعقبت ثورة 1919 . تلك الحقبة التى أوشك فيها مسار البرجوازية المصرية أن يستقيم إذ طالبت بالجلاء والدستور . لكن قواها الذاتية لم تمنحها أكثر من إستقلال منقوص , ودستور 1923 الذى حمل اضواءا ليبرالية ( وذلك ما تعرضنا له تفصيلا فى الفصل الثانى البرجوازية والوفد والدستور ) لكن الآفة التى صاحبت أفضل دستور ديموقراطى وضعته الحركة الوطنية المصريه هى أنه أعطى للملك حق إطفاء الأنوار الليبرالية متى أراد . ذلك ما جعل بعض الشرائح الإجتماعية تنصرف عن إيمانها بالديموقراطية , بل إن بعضها راح ينضم للتشكيلات الفاشية التى تطلب وتحلم بالمستبد العادل . وبعض هذه التشكيلات كان يرفع شعارات تنادى بإقامة الدولة الدينية التى كانت بقاياها لا تزال تعشش فى وجدان الجماهير , وقد بسطنا القول فى تعريف الدولة الدينية وأثبتنا أن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية إلا فترة قصيرة فى حياة الرسول عليه الصلاة والسلام , وبعد وفاته عادت السلطة والتفويض والرقابة على أعمال الحاكم لتصبح فى يد الناس , وذلك ما حمله البيان الأول للخليفة الأول وذلك ما عرضناه تفصيلا فى الفصل الرابع ( البرجوازية والدين والدولة ) وكذلك عرضنا للخديعة التى مارسها الإستعمار الإنجليزى مستغلا أوهام الدولة الدينية كى يستقطب الى ملعبه الشريف حسين وأتباعه كى يرقصوا على أنغام الإنجليز , فحاربوا الأتراك فى الحرب العالمية الأولى على وعد من انجلترا بالإستقلال وإقامة خلافة عربية إسلامية . هذا بينما كانت إنجلترا وفرنسا يتقاسمان توزيع العالم العربى فيما عرف باتفاقية سايكس بيكو , بل تعهدت انجلترا بمنح الحركة الصهيونية وطنا قوميا فى فلسطين اقتطاعا من الجسد العربى الذى تاه فى الزمان بعد أن أسكرته أوهام الخلافة الإسلامية .
لكن هذا المبحث لا يكاد يكتمل دون أن نتعرض للتحول الذى أصاب الإستعمار الأوربى الذى أهلكته حربين عالميتين , ليظهر الإستعمار الأمريكى مستغلا الأزمة المالية التى أعقبت الحروب العالمية , ليطرح أفكاره عن صندوق النقد وعن البنك الدولى اللذان يخضعان للنفوذ الأمريكى ويمهدان الطريق أمام هيمنة العملة الأمريكية على الإحتياطات النقدية لكل دول العالم وبذلك نجحت الولايات المتحدة الأمريكية فى أن تجعل قوى الإقتصاد العالمى تعمل جميعا لصالح الإقتصاد الأمريكى وعملته الورقية , وتلك هى الصورة التى جسدها غلاف الكتاب . وبسطنا لها تفصيلا فى الفصل الخامس ( البرجوازية والسياسات المالية )
لم تنجح البرجوازية المصرية إذن فى إنجاز مهامها الوطنية الديموقراطية بصورة مكتملة , فالإستقلال الوطنى لايزال منقوصا بوجود قوات إنجليزية تنشر معسكراتها فى منطقة القناه , كما أن محاولات البرجوازية المصرية لتوطين المناخ الديموقراطى فى البيئة المصرية قد اصطدمت بعثرات كثيرة بسطناها , وتشكلت منظمات سياسية أخذت تحلم بالمستبد العادل , وها قد أقبل المستبد العادل فى صورة ضباط أحرار . هدموا النظام القديم وأطاحو بدستوره , وقادوا برنامجا ناجحا للتنمية , وشملوا برعايتهم طبقات اجتماعية كان مطحونة مسترقة , حافية القدم , محرومة من التعليم ونور المعرفة . طبقات لم تكن مستهدفة فقط لإستغلال البشر الذين يعتلون سطح المجتمع , ولكنهم كانوا هدفا سهلا لما يجلبه الفقر من أمراض معدية وطفيليات معوية وسوء فى التغذية ووفيات مبكرة وعلاجات بدائية تتلف العيون فترتفع نسبة العمى , ووفيات تلاحق النساء بسبب ضعف رعاية الحوامل منهن فترتفع نسبة الأيتام . وما ذاك إلا بسبب عجز البرجوازية المصرية عن الإستقلال بسوقها الوطنية , ورفع نسب التشغيل وإدخال الطوائف المحرومة فى دائرة الرعاية والإستهلاك الذى يحفظ النفس ويوقظ العقل .
وقد عالج ضباط يوليو كل تلك الإختلالات بدرجات متفاوتة من النجاح , لكنهم وهم يعانقون السماء التى وصلت إليها أحلامهم وهتافات شعبهم , أطاحو بالأضواء الليبرالية التى احتوى عليها دستور 23 , وأطاحوا بالنظام البرلمانى , وأحلوا مكانه نظاما رئاسيا شديد المركزية ثقيل الوطأة , وضع كل الصلاحيات فى يد الرئيس وأسبغ عليه كل الحماية , وفوق ذلك عصمه من أى مسئولية أومساءلة أمام برلمان الأمة . وبذلك انهدمت فكرة الدستور من أساسها ليحل محلها شخص المستبد العادل , فمن يستطيع أن يضمن أمام التاريخ أن ثوب المستبد حتى لو كان عادلا ومنحازا للأغلبية من شعبه لن يكون فضفاضا على من يخلفه فى سدة الرئاسة ؟
كانت البرجوازية الغربية التى أصبحت إستعمارية تراقب مسيرة البرجوازية المصرية ووتتدخل بثقلها العسكرى ونفوذها السياسى لتقصم ظهر البرجوازية المصرية كلما حاولت الإستقلال أو سعت الى التنمية .
فعلت ذلك مع محمد على حينما قصقصت أجنحته وألزمته حظيرة الطاعة .
وفعلت ذلك مع أول وزارة ديموقراطية يشكلها سعد زغلول , إذ إستغلت حادثة اغتيال السردار لى ستاك كى تفرض على زعيم الأمة شروطا تعلم أن لن يقبلها … فاستقال .
وفعلت ذلك مع طلعت حرب – أبرع ممثلى الإقتصاد الوطنى – الذى طاف القرى كى يقنع أصحاب الملكيات الكبيرة باستثمار فوائض أموالهم فى تأسيس بنك مصرى يؤسس لصناعة وطنية , فتآمرت عليه حتى إضطرته الى الإستقالة .
وفعلت ذلك مع جمال عبد الناصر الذى قاد برامج تنمية عديدة أصبحت تشكل نموذجا رائدا فى العالم الثالث . فوجهت إليه ضربة عسكرية قاصمة فى 1967 , وأعانهم على ذلك ترهل وجهالة القيادة العسكرية التى وضعها عبد الناصر على رأس الجيش المصرى .
وحينما نجحت مصر فى تحقيق نصر عسكرى على إسرائيل فى 1973 , كانت القيادة السياسية المصرية ذات الصلاحيات المطلقة – ولأسباب شخصية – تثق ثقة مطلقة فى الولايات المتحدة الأمريكية , وتؤمن بأن صلحا مع إسرائيل سوف يزاوج بين العبقرية اليهودية والمال العربى . فإذا كل شعوب المنطقة فى بحبوحة على سرر متقابلين . وكانت برجوازية الدولة البيروقراطية التى تمددت فى زمن عبد الناصر قد تدربت على أن تتبع سيدها ذات اليمين وذات اليسار , فاستدارت مع قيادتها, وراحت تروّج لدعاوى أننا أمة زراعية , وأن التوجه للتصنيع كان خطئا كبيرا , وأن أخلاقنا يجب أن تصبح أخلاق قرية . وأن سوقنا الوطنية يجب أن تكون مفتوحة أمام المنتجات الأجنبية .
فكيف يكون ذلك ونحن أمّة ليست ذات فوائض بترولية كبيرة , وسماءنا لا تمطر ذهبا ولا فضة؟ .
ببيع وحدات قطاع الدولة بدلا من تجديدها هى التى حملت عبء الصمود , بالإستدانة من صندوق النقد الدولى الذى تأتى قروضه بشروط ميسرة , يتبعها نفوذ أمريكى يعيد ترتيب الداخل المصرى بعد أن تثقله جبال الديون . ببرجوازية طفيلية تخنق وتحاصر البرجوازية المنتجه وتسخر من دعاواها الوطنية , وتخصص جزءا من أرباحها المهولة كى تحارب العقلانية , وتسخر من الإستنارة . وتضطهد الثقافة الوطنية وتستجلب لمشروعها شيوخا ذوى عمائم يحتلون الفضائيات فيهاجمون الحضارة وهم ينعمون بأحدث منتجاتها . بأذرع سياسية مستعدة للدفاع عن المصالح الطفيلية التى تمتص عافية الأمة .
هنا تصبح المراجعة التاريخية سبيلنا , ونقد الذات وسيلتنا لتصحيح المسار , والتحالف الوطنى الديموقراطى هدفنا كى نلحق بزماننا ..

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *